تجد أحياناً اختلافاً في بلدان العالم داخل الأسرة الواحدة في الدم والطبيعة والفطرة التي يتربون عليها، إلا بين الأسر السعودية واليمنية، فهناك تجانس عجيب لم أجده مع جنسيات أخرى، سواء في التواصل بين الأسر أو الشعور المشترك بالروابط والأخوّة.
هذه الروابط تطغى على كل الصداقات، فعندما تجلس إلى جانب سعودي تجده يبادر بالسؤال من أي محافظة أنت؟ وكأنه ولد وترعرع في اليمن! وبتنهيدة يخرجها من القلب يباغتك بالسؤال الثاني: طمنونا كيف الوضع؟ وكيف حال أهلنا هناك؟ وهل هناك حلّ في الأفق؟ يشعرك بحالة الألم الذي يعيشه على بلده الثاني اليمن، يشعرك بمرارة الألم على كل ما يتعرّض له الإنسان اليمني من أزمات، يشعرك أنه يعيش معك بروحه وقلبه وجسده. وليس هذا فحسب، بل إن النساء اليمنيات والسعوديات حين يلتقين تتحول البيوت والمكان إلى أفراح، وكأنهن كنّ يعرفن بعضهن منذ زمن طويل، ولسنَ غريبات جمعتهنّ الصدفة! ويتطور ذلك إلى تبادل الأكلات والهدايا، وحضور الأفراح والأعراس، والتواصل على الهاتف.
أنا حقيقة كمواطن يمني أعمل في جريدة سعودية منذ أكثر من 26 عاماً، لم أجد تعاملاً راقياً كما أجده من السعوديين، بل أشعر بالتعامل وكأني مع أسرتي، كانوا الأقرب ربما من الأسرة نفسها في اليمن في كل أزمة صحية أو عارض أجدهم معي صفاً واحداً.
البعض من أبناء بلدي يتعامل مع السعودي من خلال النظرة الخارجية، إذ يحرص السعودي على أن يكون مظهره جميلاً ولائقاً، وشخصيته صامتة وقوية، فيعتقد أنه يختلف عن الإنسان اليمني، لكنه حين يعايشه عن قرب يجد القلب والروح، وحتى الكلام والتواضع والطيبة، لا يختلف عن اليمني، بل ربما يحمل قلباً أرهف من اليمني نفسه.
منذ أن عشت في السعودية، أضحك وأشاغب وأمازح وآكل وأتبادل الحديث مع السعودي، ما جعلني أحكم على أن الشعب السعودي يمني، واليمني سعودي في كل شيء، في الدّم، والجغرافيا، والكلام، والأكلات، والحضارة، وحتى في المشاكل والمشاغبات والمزاح؛ الطبيعة نفسها.. لا اختلاف، فقط هم لديهم دولة وقانون ونحن تحكمنا قوانين الغابة، ولو وُجدت الدولة بقوتها وقوانينها لتعطي الحقوق وتأخذ الواجبات سنكون أسعد شعب.
السعودي ربما يحنّ لليمن أكثر من اليمني نفسه الذي أصبح يكره بلاده من الحروب والصراعات، بل أصبح يكره حتى ذكريات طفولته، لكن حين تجلس إلى سعودي يقول: متى ستعود اليمن؟ كانت أياماً جميلة تلك التي كنت أقضيها في إب وصنعاء وتعز وذمار، بل ويذكر لي عدد المطاعم على طول الطريق بين الحديدة وتعز، ومن أفضل طباخ لـ"المندي" الذي يذبح الذبيحة أمامه ويطبخها فوراً، وجلسات "المقيل" مع اليمنيين، وذاك يحدثني عن مرحلة دراسته في اليمن، وآخر يتذكر صنعاء القديمة وكرم القبائل في محافظات الجوف وحضرموت ومأرب وشبوة.. لكل سعودي حكاية مع اليمن واليمنيين لا تخلو من الحب الكبير لليمن وشعبه.
لا أخفيكم أن السعودي في الغربة أقرب إلى اليمني من اليمني نفسه! في فترة من الفترات مررت بأزمة - وهي طبيعة الصحفي "يوم فوق ويوم تحت" - قبل وأثناء أزمة "كورونا" هذه الأزمة جعلتني عاجزاً عن دفع الإيجار، وبعد شهرين لم أتواصل فيهما مع صاحب البيت كي أدفع له الإيجار، مع أني كنت وفياً معه كل شهر وقبل أن ينتهي حتى، إذا به يتصل بي.. قلت له "يا عم المعذرة.. هذه الأيام بالكاد نجري خلف لقمة العيش، يا حبذا تعطينا مزيداً من المهلة"، الرجل قال لي لا تقلق، ولم يكتفِ بذلك، بل فوجئت أنه يتصل بي وهو أمام البيت ويطلب مني إرسال الولد ليسلمه سلّة غذائية ولحماً ومبلغاً مالياً، ويقول له: "أعطِه لأبيك يدبّر نفسه هذه الأيام"، حقيقة أبهرني هذا الموقف الأخوي السعودي، ولو كنت في اليمن لكان أثاثي في الشارع بمجرد أن أقول له "ما عندي مبلغ الإيجار هذه الأيام"، وحصلت لزملاء كُثر.
استمر الرجل بين فترة وأخرى - ولا يزال حتى اليوم - رغم أني قد غادرت منزله قبل سنوات يفاجئني بين فترة وأخرى بمواقفه الأخوية، وليس هذا فحسب بل خلال أيام "كورونا" اتصل بي وقال لي أنت مُعفى شهراً كاملاً من الإيجار، والشهر الثاني سنسدد به الكهرباء، وليس هذا فحسب، فأثناء بدء السعودية عملية تحسين المشهد الحضري في مدينة جدة التي أعيش فيها، أبلغني أنه اتُخذ قرار من الدولة بإزالة منزله وجرى تعويضه، وقال لي لو كانت لدي شقة لقلت لك انتقل إليها، وأعاد لي مبلغ إيجار شهرين ماضيين.
كل هذا يؤكد أن السعوديين لهم ارتباط كبير مع القبائل اليمنية، وهم من وصفهم الرسول بأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً، فضلاً عن الإيمان والحرص على العبادة الذي تجد السعودي يتمتع به، بل ويربي أولاده منذ الصغر عليه، فهذه الحقيقة التي ينبغي أن يفهمها كل يمني. ليست مجاملة، بل واقع نعيشه نحن في بلدنا الثاني السعودية، وعلينا ألا نحكم على الناس بالمظاهر، بل بالتعايش والوقائع.
وهنا أتحدث عن السعودية كشعب، وليس كدولة، لأن الدولة فضائلها على الشعب اليمني تتجاوز المعقول، بل ووصلت إلى الكرم الذي لا نهاية له ولا حدود، ولا ينكر ذلك إلا جاحد، أو مريض نفسياً، أو خائن لليمن وشعبه.
هناك أكثر من مليونَي يمني يعيشون بشكل قانوني، ويجدون كل المودّة والتسهيلات التي لا تحصل عليها أي جنسية أخرى، فضلاً عن المئات من المعتمرين والزوّار والحجاج وغيرهم، وهناك تسهيلات وتعليم للأطفال، وأولوية في الفرص الجامعية لليمني، لكن الشكر للمملكة قيادة وشعباً قليل بحقهم، بل نعجز عن ذكر مواقفهم أو شكرهم، ولا نقول إلا جزى الله القيادة والشعب السعودي على مواقفهم الجبارة، وأياديهم البيضاء، مع شعب ظُلم كثيراً من أبناء جلدته في الداخل، وندعو الله أن يزيد هذا البلد السعودي العظيم، عظمة ورفعة ومكانة، وينعم على قيادته بموفور الصحة والعافية.