تحليل فني وتقني ومحاسبي لمخرجات اجتماع البنك المركزي بشأن الدفع الفوري والبنية الرقمية
الناقد نت - خاص
في خطوة بدت من حيث الشكل طموحة ومبشّرة، عقد البنك المركزي اليمني في عدن اجتماعًا موسعًا يوم الخميس 10 يوليو 2025، ضم جميع البنوك العاملة في الجمهورية، برئاسة المحافظ أحمد أحمد غالب، لمناقشة تأسيس "شركة الدفع الفوري" (Fast Payment)، وإعادة هيكلة "شركة الشبكة الموحدة"، بالإضافة إلى تعزيز الامتثال المالي وتسهيل تعاملات اليمن المصرفية مع العالم الخارجي، بدعم من البنك الدولي.
ورغم أهمية هذه المسارات في السياق النظري والاقتصادي الكلي، إلا أن التحليل الفني والمهني المحاسبي يكشف أن هذه التوجهات تصطدم بجملة من الحقائق البنيوية الصلبة التي لا يمكن تجاهلها، وتتطلب مقاربات تدريجية واقعية بدلًا من القفز إلى مراحل رقمية متقدمة في بيئة ما تزال تفتقر لأبسط مقومات الدولة الحديثة.
أولاً: الدفع الفوري – قفزة تكنولوجية فوق واقع هش
يتحدث الاجتماع عن تأسيس شركة وطنية للدفع الفوري كخطوة لتعزيز كفاءة التحويلات البنكية وتسريع وتيرة التعاملات المالية، في سياق يشبه تجارب ناجحة في بلدان مثل مصر والهند. لكن الواقع اليمني يحمل صورة مغايرة تمامًا، من أبرز ملامحها:
غياب البنية التحتية الرقمية المستقرة: الإنترنت ما يزال في معظمه تحت سيطرة جماعة الحوثي، ولا توجد شبكة وطنية مستقلة وآمنة لنقل البيانات المصرفية. "عدن نت" محدودة النطاق وتعاني من الأعطال المتكررة.
الانقطاعات الكهربائية المزمنة: عدم استقرار التيار الكهربائي يقوّض أي إمكانية لتشغيل مراكز بيانات أو نقاط بيع إلكترونية بصورة موثوقة.
ضعف الأمن السيبراني: لا توجد بنية حماية سيبرانية مركزية، ما يجعل أي منصة دفع فوري عرضة للاختراق من جهات داخلية أو خارجية، في ظل وجود لاعبين إقليميين معادين يستخدمون الأدوات الرقمية كسلاح.
ضعف الانتشار المصرفي: لا تتوفر شبكة واسعة من أجهزة نقاط البيع أو تطبيقات QR Code، ما يجعل نظام الدفع الرقمي غير قابل للتطبيق على نطاق واسع، خصوصًا في المناطق الريفية والمهمشة.
ثانيًا: إعادة هيكلة الشبكة الموحدة – صلاحيات بدون قاعدة تشغيلية
إحدى أبرز التوصيات في الاجتماع كانت ضرورة إعادة هيكلة "شركة الشبكة الموحدة" لتصبح الذراع التشغيلية المتقدمة للبنية الرقمية المصرفية، مع رفع رأس مالها وتمكين البنوك من امتلاك الحصة الأكبر فيها.
لكن التقييم المحاسبي والفني يشير إلى أن:
غياب الشفافية المالية: أغلب البنوك اليمنية لا تنشر قوائمها المالية المدققة، ولا توجد قاعدة بيانات مركزية لدى البنك المركزي تعرض وضع كل بنك على حدة، ما يجعل إعادة الهيكلة المالية والملكية عملية ضبابية.
اختلاف الولاءات المصرفية: عدد من البنوك الكبيرة ما يزال يعمل من صنعاء ويخضع لضغوط مباشرة من الحوثيين، وبالتالي فإن تمكين هذه البنوك من السيطرة على أدوات الدفع الرقمي في عدن قد يُشكّل تهديدًا أمنيًا مباشرًا.
غياب الخبرة التشغيلية: تشغيل شبكة دفع وطني موحدة يتطلب كوادر متخصصة في شبكات المدفوعات، إدارة المخاطر السيبرانية، والتشفير المالي، وهي كفاءات نادرة أو غائبة في السوق اليمني حاليًا.
ثالثًا: تعزيز الامتثال المالي – نوايا تصطدم بالواقع التشريعي
يسعى البنك المركزي، عبر الاجتماع، إلى تعزيز التزام البنوك وشركات الصرافة بمعايير الامتثال المالي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بهدف تسهيل استعادة علاقات المراسلة مع البنوك الدولية، وهو أمر في غاية الأهمية، لكنه يتطلب توفر عدة شروط غائبة:
انقسام وحدة الاستخبارات المالية (FIU): لا توجد وحدة موحدة فعالة تعمل على تتبع التدفقات النقدية المشبوهة على مستوى الجمهورية.
ازدواجية في القوانين والامتثال: البنوك في صنعاء تتبع أنظمة مختلفة كليًا، تُدار من قبل الحوثيين، ولا تلتزم بأي من معايير FATF أو AML/CFT.
فجوة في أنظمة التقارير: لا تتوفر أنظمة رقمية إلزامية لرفع تقارير العمليات المشبوهة (SAR) أو تقارير المعاملات الكبيرة (CTR)، ما يجعل الالتزام شكليًا أكثر منه جوهريًا.
غياب الثقة الدولية: لا يمكن استعادة علاقات المراسلة البنكية الدولية طالما استمرت البنوك في صنعاء والصرافين المرتبطين بالحوثيين في العمل بدون رقابة فعالة.
رابعًا: تحديات إضافية تقوض المشروع برمّته
1. دولة بلا كهرباء ولا إنترنت آمن: لا يمكن لأي منظومة دفع رقمية أن تنجح في ظل هذه الأوضاع.
2. هيمنة الحوثيين على مفاتيح الشبكات: سيطرتهم على الاتصالات، البريد، الإنترنت، وحتى أنظمة التوثيق الشخصي تجعل من عدن بيئة غير مكتملة السيادة الرقمية.
3. غياب استراتيجية وطنية للشمول المالي: لا توجد هوية رقمية موحدة، ولا قاعدة بيانات موثقة للعملاء (KYC)، ما يجعل الانتقال إلى النظام المصرفي الرقمي محفوفًا بالمخاطر.
4. استمرار التعامل النقدي بين البنوك والصرافين غير المرخصين: يجعل النظام المصرفي الحالي عرضة لغسل الأموال والتحويلات غير القانونية.
التوصيات:
1. إيقاف أي خطوات عملية لتأسيس شركة الدفع الفوري قبل ضمان البيئة التحتية الرقمية والأمن السيبراني الكامل.
2. إطلاق استراتيجية وطنية لبناء نظام دفع تدريجي، يبدأ من سداد الفواتير والتحويل المحلي، وليس قفزًا نحو النظام الكامل للدفع الفوري.
3. تفعيل وحدة استخبارات مالية مستقلة في عدن، وتجميد التعامل مع البنوك الخاضعة لسلطة صنعاء.
4. العمل مع شركاء إقليميين مثل مصر أو الأردن أو السعودية لبناء منظومة حماية سيبرانية وطنية.
5. نشر التقارير المالية السنوية للبنوك كشرط أساسي لأي مشاركة في شركة الدفع أو الشبكة الموحدة.
الخلاصة:
ما طُرح في اجتماع البنك المركزي اليمني يوم 10 يوليو 2025 يمثل توجهًا نظريًا إيجابيًا، لكنه يصطدم بجدار من التحديات الواقعية التي لا يمكن القفز فوقها. إن تأسيس نظام دفع فوري وشبكة موحدة ومركز مالي متكامل يتطلب أولًا إعادة بناء الدولة، واستعادة السيادة على المؤسسات النقدية والاتصالية، وتوفير الحد الأدنى من البنية التحتية التكنولوجية.
أي قفز فوق هذه المتطلبات سيؤدي إلى تحويل هذه المبادرات إلى أدوات فشل جديدة تُحمّل على كاهل البنوك والمواطن، دون أي مردود فعلي على الاقتصاد أو حياة الناس.
رياض الاكوع